الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. الأحاديث المتقدمة في البطيخ كلها مختلقة لم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في أكل البطيخ. وجميع ما يروي من هذا الجنس فهو كذب وأما أكل البطيخ بالرطب فهو كأكل القثاء بالرطب والحديث بذلك أصح. والمراد به حلاوة هذا ورطوبة هذا. وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، فهذا بيان أكل البطيخ الأخضر بالرطب أو التمر. فأما أكله بالرطب الأصفر فلا أصل له، لا من نص، ولا قياس. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، لم يجئ في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذا يقوله بعض الناس، ومعناه الأمر بالقناعة، وإنه يكتفي بالخبز إذا حضر، ولا ينتظر غيره، ولا يطلب من المضيف غيره، فإن ذلك من كرامته. فأما إن كانوا منتظرين أدماً يحضر، وإذا أكلوا الخبز بقي الأدم وحده، فانتظارهم حتى يأكلوا الأدم مع الخبز هو الذي يصلح. والله أعلم.
/فأجاب: الحمد لله، إذا كان في الترك مفسدة ـ من قطيعة رحم أو فساد ذات البين ونحو ذلك ـ فإنه يجيبه؛ لأن الصلة وصلاح ذات البين واجب فإذا لم يتم إلا بذلك كان واجبا، وليست الإجابة محرمة. أو يقال: إن مصلحة ذلك الفعل راجحة على ما يخاف من الشبهة، وإن لم يكن فيه مفسدة، بل الترك مصلحة توقيه الشبهة، ونهى الداعي عن قليل الإثم. وكان في الإجابة مصلحة الإجابة فقط وفيها مفسدة الشبهة، فأيهما أرجح؟ هذا فيه خلاف ـ فيما أظنه ـ وفروع هذه المسألة كثيرة قد نقل أصحابنا وغيرهم فيها مسائل، قد يرجح بعض العلماء جانب الترك والورع. ويرجح بعضهم جانب الطاعة والمصلحة.
فأجاب: إن عرف الحرام بعينه لم يأكل حتمًا، وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه، لكن إذا كثر الحرام كان متروكًا ورعًا. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه، ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين، فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق. قال أبو عمر ابن عبد البر إمام المغرب: أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز. وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب أو فعل محرم: مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها، أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا، فإنها ـ حينئذ ـ تكون حراما باتفاق العلماء. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تلك صلاة المنافق؛ يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة صلاة المنافقين. وقد ذم الله صلاتهم بقوله: / والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها، كما جاء في السنن لأبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها إلا عشرها). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وإذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الإعادة قولان / معروفان للعلماء: أحدهما: لا تبرأ الذمة، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي، وغيرهما. والمقصود أن الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرًا حرام باتفاق العلماء. وشغله عن إكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط، وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة، من مصلحة النفس، أو الأهل أو الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، أو صلة الرحم، أو بر الوالدين، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور. وقل عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه. وكذلك إذا اشتملت على محرم، أو استلزمت محرما، فإنها تحرم بالاتفاق: مثل اشتمالها على الكذب، واليمين الفاجرة، أو الخيانة التي يسمونها المغاضاة، أو على الظلم، أو الإعانة عليه، فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين. ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف إذا كان بالشطرنج، والنرد، ونحو ذلك؟ ! وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، أو التعاون على العدوان، أو غير ذلك، أو مثل أن يفضي اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم، فهذه الصورة وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها. وإذا قدر خلوها عن ذلك كله، فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك. وصح عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج / فقال: والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه [تحريمها]. وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها، للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه: أنه يكرهها، ويراها دون النرد، ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم، فإنه قال: للخبر. ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك: (من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله) فإذا كره الشطرنج. . . وإن كانت أخف من النرد. وقد نقل عنه أنه توقف في التحريم، وقال: لا يتبين لي أنها حرام، وما بلغنا أن أحدًا نقل عنه لفظًا يقتضي نفي التحريم. والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم في تحريمها أكثر ألفاظهم الكراهة. قال ابن عبدالبر: أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج، وقالوا: لا يجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج. وقال يحيي: سمعت مالكا يقول: لا خير في الشطـرنج وغيرهـا، وسمعته يكره اللـعب بها وبغيرها من الباطـل، ويتلـو هـذه الآيـة: وقد تنازع الجمهور في مسألتين: إحداهما: هل يسلم على اللاعب بالشطرنج؟ فمنصوص أبي حنيفة وأحمد والمعافي بن عمران وغيرهم: أنه لا يسلم عليه. ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد: أنه يسلم عليه. ومع هذا فإن مذهب مالك أن الشطرنج شر من النرد. ومذهب أحمد أن النرد شر من الشطرنج، كما ذكره الشافعي. والتحقيق في ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد؛ لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك؛ ولهذا يقال: إن الشطرنج على مذهب القدر، والنرد على مذهب الجبر. واشتغال القلب بالتفكير في الشطرنج أكثر. وأما إذا اشتمل النرد على عوض، فالنرد شر. وهذا هو السبب في كون أحمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرًا، لاستشعارهم أن العوض يكون في النرد دون الشطرنج. ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب؛ فإن الله ـ تعالى ـ حرم الميسر في كتابه، وأتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج أو بالنرد، أو بالجوز، أو بالكعاب، أو البيض. قال غير واحد من التابعين، كعطاء، وطاووس ومجاهد، وإبراهيم النخعي ـ: كل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب / الصبيان بالجوز. فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قمارًا، فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة والمناضلة، لو أخرج كل منهما السبق، ولم يكن بينهما محلل، حرموا ذلك لأنه قمار. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار) والنبي صلى الله عليه وسلم حرم بيوع الغرر؛ لأنها من نوع القمار: مثل أن يشتري العبد الآبق والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع، وإن لم يجده كان البائع قد قمره، فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض. ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها إلا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض؛ ولهذا قال: أكرهها، للخبر. فبين أن مستنده في ذلك الخبر، لا القياس عنده. وهذا مما احتج به الجمهور عليه، فإنه إذاحرم النرد، ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها. وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب، وهي تفعل في النفوس، فعل حميا الكؤوس. فتصد عقولهم / وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة. وقليلها يدعو إلى كثيرها، فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة. وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل، فهكذا القول في الشطرنج. وتحريم النرد ثابت بالنص، كما في السنن عن أبي موسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله) وقد رواه مالك في الموطأ، وروايته عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد، فأرسلت إليهم: إن لم تخرجوها لأخرجكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم. ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه، وكسرها. وفي بعض ألفاظ الحديث عن أبي موسي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت عنده، فقال: (عصي الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها) فعلق المعصية بمجرد اللعب بها، ولم يشترط عوضا، بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بريدة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه). وفي لفظ آخر: (فليشقص الخنازير)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا / الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه، وكالذي يشقص الخنازير: يقصبها. ويقطع لحمها، كما يصنع القصاب. وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد أكل، أو لم يوجد، كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك، سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن، فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل فكذلك النرد ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل. وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم [النرد] و[الشطرنج]، ونحوهما. أحدها: أن يقال: النهي عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو أجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهى عن ذلك، إلا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة كما في الحديث: (لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل)؛ لأن بذل المال فيما لا ينفع في الدين ولا في الدنيا منهي عنـه، وإن لم يكـن قمارا. وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن، وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق). قوله: [من الباطل] أي مما لا ينفع، فإن الباطل ضد الحق. والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه. ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد، وهو الأمر النافع فما ليس من هذا فهو باطل، ليس بنافع. /وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة؛ لكن لا يوكل به المال؛ ولهذا جاز السباق بالأقدام، والمصارعة، وغير ذلك، وإن نهى عن أكل المال به. وكذلك رخص في الضرب بالدف في الأفراح، وإن نهى عن أكل المال به. فتبين أن ما نهى عنه من ذلك ليس خصوصا بالمقامرة، فلا يجوز قصر النهي على ذلك. ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل، ومثل الرمي بالنشاب، ونحو ذلك؛ فإن المقامرة إذا دخلت في هذا حرموه مع أنه عمل صالح واجب أو مستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا)، (ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا)، وكان هو وخلفاؤه يسابقون بين الخيل، وقرأ على المنبر: الوجه الثاني: أن يقال: هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم، فقال تعالى: ومعلوم أن الخمر لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه، فلا يجوز اقتناؤها، ولا شرب قليلها، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامي. مع أنها اشترىت لهم قبل التحريم، ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وابن المبارك وغيرهما: أنه ليس في الخمر شيء محترم، لا خمرة الخلال ولا غيرها، وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر بأن يصب في العصير خلا، وغير ذلك مما يمنع تخميره بل كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين؛ لئلا يقوي أحدهما على صاحبه، فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري. ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به، كالدباء، والحنتم، والظرف المزفت، والمنقور من الخشب. وأمر بالانتباذ في السقاء الموكاء؛ لأن السكر ينظر: إذا كان في الشراب انشق الظرف وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره. فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه. /وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا، وبعد الثلاث يسقيه، أو يريقه؛ لأن الثلاث مظنة سكره، بل كـان أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، فهذا كله. . . سدا للذريعة؛ لأن النفوس لما كانت تشتهي ذلك، وفي اقتنائها - ولو للتخليل - ما قد يفضي إلى شربها، كما أن شرب قليلها يدعو إلى كثيرها فنهى عن ذلك. فهذا الميسر المقرون بالخمر إذا قدرأن علة تحريمه أكل المال بالباطل، وما في ذلك من حصول المفسدة، وترك المنفعة. ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس، وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض، كما جرت به العادة، وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة، وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع: مثل المسابقة والمصارعة، ونحو ذلك، فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك، ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها. وهذا المعني نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)، فإن الغامس يده في ذلك يدعوه إلى أكل الخنزير، وذلك مقدمة أكله وسببه وداعيته، فإذا حرم ذلك فكذلك اللعب الذي هو مقدمة أكل المال بالباطل وسببه وداعيته. /وبهذا يتبين ما ذكر العلماء من أن المغالبات ثلاثة أنواع. فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله: الوجه الثالث: أن يقال: قول القائل: إن الميسر إنما حرم لمجرد المقامرة دعوي مجردة، وظاهر القرآن والسنة والاعتبار يدل على فسادها. وذلك أن الله تعالى قال: ومن المعلوم أن هذا يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما، وإن لم يكن فيه عوض، وهو في الشطرنج أقوى؛ فإن أحدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه، وفيما يريد أن يفعل هو، وفي لوازم ذلك، ولوازم لوازمه، حتى لا يحس بجوعه ولا عطشه، ولا بمن يسلم عليه، ولا بحال أهله، ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله، فضلا أن يذكر ربه أو الصلاة / وهذا كما يحصل لشارب الخمر، بل كثير من الشرَّاب يكون عقله أصحي من كثير من أهل الشطرنج والنرد. واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها إلا بدست بعد دست، كما لا تنقضي نهمة شارب الخمر إلا بقدح بقدح، وتبقي آثارها في النفس بعد انقضائها أكثر من آثار شارب الخمر، حتى تعرض له في الصلاة، والمرض، وعند ركوب الدابة، بل وعند الموت، وأمثال ذلك من الأوقات التي يطلب فيها ذكره لربه وتوجهه إليه. تعرض له تماثيلها، وذكر الشاه، والرخ، والفرزان، ونحو ذلك. فصدها للقلب عن ذكر الله قد يكون أعظم من صد الخمر، وهي إلى الشرب أقرب، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ للاعبيها: والفعل إذا اشتمل كثيرا على ذلك وكانت الطباع تقتضيه ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعًا، فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبًا؟ ! وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة، كما قد بسطناه في [قاعدة سد الذرائع] وغيرها، وبينا أن كل فعل أفضي إلى المحرم كثيرا، كان سببا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة، نهى عنه، بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهى عنه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، / فكيف بما كثر افضاؤه إلى الفساد؛ ولهذا نهى عن الخلوة بالأجنبية. وأما النظر: فلما كانت الحاجة تدعو إلى بعضه رخص منه فيما تدعو له الحاجة؛ لأن الحاجة سبب الإباحة، كما أن الفساد والضرر سبب التحريم، فإذا اجتمعا رجح أعلاهما، كما رجح عند الضرر أكل الميتة؛ لأن مفسدة الموت شر من مفسدة الاغتذاء بالخبيث. والنرد والشطرنج ونحوهما، من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصي، وليس فيها مصلحة معتبرة، فضلا عن مصلحة مقاومة. غايته أن يلهي النفس ويريحها، كما يقصد شارب الخمر ذلك. وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه ومما يبين أن الميسر لم يحرم لمجرد أكل المال بالباطل ـ وإن كان أكل المال بالباطل محرما، ولو تجرد عن الميسر، فكيف إذا كان في الميسر؟ ! بل في الميسر علة أخرى غير أكل المال بالباطل، كما في الخمر: أن الله قرن بين الخمر والميسر، وجعل العلة في تحريم هذا هي العلة في تحريم هذا، ومعلوم أن الخمر لم تحرم لمجرد أكل المال بالباطل، وإن كان أكل ثمنها من أكل المال بالباطل، فكذلك الميسر. يبين ذلك أن الناس أول ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر أنزل الله تعالى: والمال مادة البدن، والبدن تابع القلب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، ألا وهي القلب). والقلب هو محل ذكر الله تعالى وحقيقة الصلاة. فأعظم الفساد في تحريم الخمر والميسر إفساد القلب الذي هو ملك البدن: أن يصد عما خلق له من ذكر الله والصلاة، ويدخل فيما يفسد من التعادي والتباغض. والصلاة حق الحق. والتحاب والموالاة حق الخلق. وأين هذا من أكل مال بالباطل؟ ! ومعلوم أن مصلحة البدن مقدمة على مصلحة المال، ومصلحة القلب مقدمة على مصلحة البدن. وإنما حرمة المال لأنه مادة البدن؛ ولهذا قدم الفقهاء في كتبهم ربع العبادات على ربع المعاملات، وبهما تتم مصلحة القلب والبدن. ثم ذكروا ربع المناكحات؛ لأن ذلك مصلحة الشخص وهذا مصلحة النوع الذي يبقي بالنكاح. ثم لما ذكروا المصالح ذكروا ما يدفع المفاسد في ربع الجنايات. /وقد قال تعالى: ولما كانت الصلاة متضمنة لذكر الله ـ تعالى ـ الذي هو مطلوب لذاته، والنهي عن الشر الذي هو مطلوب لغيره، قال تعالى: والمقصود هنا: أن يعرف مراتب المصالح والمفاسد وما يحبه الله ورسوله وما لا يبغضه مما أمر الله به ورسوله: كان لما يتضمنه من تحصيل المصالح التي يحبها ويرضاها، ودفع المفاسد التي يبغضها ويسخطها، وما نهى عنه كان لتضمنه ما يبغضه ويسخطه، ومنعه مما يحبه ويرضاه. وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان، وما يضرها من الغفلة والشهوة، كما قال تعالى: /وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله ـ تعالى ـ وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق. ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح. فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل، والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال، يشبه هذا. . إن هذه المغالبات تصد عن ذكر الله وعن الصلاة من جهة كونها عملا، لا من جهة أخذ المال، فإنها لا تصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلا كما يصد سائر أنواع أخذ المال، ومعلوم أن الأموال التي يكتسب بها المال لا ينهى عنها مطلقا؛ لكونها تصد عن ذكر الله وعن / الصلاة. بل ينهى منها عما يصد عن الواجب، كما قال تعالى: فلو كان اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما في جنسه مباحا، وإنما حرم إذا اشتمل على أكل المال بالباطل، كان تحريمه من جنس تحريم ما نهى عنه من المبيعات والمؤجرات المشتملة على أكل المال بالباطل، كبيوع الغرر. فإن هذه لا يعلل النهي عنها بأنها تصد عما يجب من ذكر الله وعن الصلاة، فإن البيع الصحيح منه ما كان يصد، وأن المعاملات الفاسدة لا يعلل تحريمها بأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فيمكن أن يقال تلك المعاملات الصحيحة ينهى منها عما يصد عن الواجب فتبين أن تحريم الميسر ليس لكونه من المعاملات الفاسدة، وأن نفس العمل به منهي عنه لأجل هذه المفسدة، كما حرم شرب الخمر. وهذا بين لمن تدبره. ألا تري أنه لما حرم الربا لما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل قرن بذلك ذكر البيع الذي هو عدل، وقدم عليه ذكر الصدقة التي هي إحسان. فذكر في آخر سورة البقرة حكم الأموال ـ المحسن، والعادل، والظالم ـ / ذكر الصدقة، والبيع، والربا. والظلم في الربا، وأكل المال بالباطل به أبين منه في الميسر، فإن المرابي يأخذ فضلا محققا من المحتاج؛ ولهذا عاقبه الله بنقيض قصده، فقال: /فتبين أن الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال، وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل، وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي، فينهي عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهي عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال. فإذا اجتمعا عظم التحريم، فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا. ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا، ومعلوم أن الله ـ تعالى ـ لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم، وإن كان أكـل ثمنها لا يصـد عن ذكـر الله وعـن الصـلاة، ولا يوقـع العـداوة والبغضـاء؛ لأن الله ـ تعالى ـ إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه، كل ذلك مبالغة في الاجتناب، فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا. والمعين على الميسر كالمعين على الخمر، فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان. وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك، فكذلك الإعانة على الميسر، كبائع آلاته، والمؤجر لها، والمذبذب الذي يعين أحدهما، بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليـوم الآخـر فـلا يجلـس على مائـدة يشـرب عليهـا الخمـر) وقـد رفع إلى عمر بن /عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم، فقيل له: إن فيهم صائما. فقال: ابدؤوا به! ثم قال: أما سمعت قوله تعالى: فإن قيل: إذا كان هذا من الميسر، فكيف استجازه طائفة من السلف؟ قيل له: المستجيز للشطرنج من السلف بلا عوض كالمستجيز للنرد بلا عوض من السلف، وكلاهما مأثور عن بعض السلف، بل في الشطرنج قد تبين عذر بعضهم، كما كان الشعبي يلعب به لما طلبه الحجاج لتولية القضاء. رأى أن يلعب به ليفسق نفسه، ولا يتولي القضاء للحجاج، ورأي أن يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه إعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين. وكان هذا أعظم محذورًا عنده، ولم يمكنه الاعتذار إلا بمثل ذلك. ثم يقال: من المعلوم أن الذين استحلوا النبيذ المتنازع فيه من السلف والذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف أكثر وأجل قدرا من هؤلاء، فإن ابن عباس ومعاوية وغيرهما رخصوا في الدرهم بالدرهمين، وكانوا متأولين أن الربا لا يحرم إلا في النساء، لا في اليد باليد. وكذلك من ظن أن الخمر / ليست إلا المسكر من عصير العنب، فهؤلاء فهموا من الخمر نوعا منه دون نوع، وظنوا أن التحريم مخصوص به. وشمول الميسر لأنواعه كشمول الخمر والربا لأنواعهما. وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله ـ تعالى ـ عفا للمؤمنين عما أخطؤوا كما قال تعالى:
|